![]() |
من بين الأمثال الشائعة بمنطقة الجلفة قولهم “عندو مال بن طريبة” كناية عن الثراء الفاحش وتشبيها لثروة “أحمد بن طريبة” الذي ينتمي إلى عرش أولاد مباركة من قبيلة أولاد سعد بن سالم … الراوية الذي أمدنا ببعض معلومات هذا المقال هو “الحاج دوراري الجديد”، المولود سنة 1940، بواسطة ابنه الدكتور دوراري لمين، حفظهما الله.
أحمد بن طريبة يكون قد ولد في النصف الثاني للقرن التاسع عشر وتوفي في أربعينات القرن الماضي. وقد كان في بدايات حياته راعيا وتاجر غنم عند “عويّل” وهو شخصية ثرية من نفس القبيلة، وتقع مضاربهم جميعا في منطقة عين الإبل وما جاورها.
أما أسواقهم فهي أسواق الصحراء من مسعد وغارداية وبريان والأغواط والڨرارة ومتليلي الشعانبة وغيرها. ومن المعروف تاريخيا أن قبيلة أولاد سعد بن سالم هي قبيلة تجارة ولها قوافل مشهورة بارتيادها الصحراء والتيطري حيث تنقل الصوف والسمن ومنتجات الجلود والنسيج والملح وريش النعام وغيرها إلى الشمال وفي المقابل تجلب إلى أسواق الصحراء القمح والشعير.
وحدث أن أرسل “عويّل” أبناءه في تجارة إلى الصحراء وقد أعطى كلا منهم قطيعا من المواشي كما أعطى “بن طريبة” قطيعا. وكان “عويّل” يرجو أن تكون تلك السفرية فرصة لأبنائه ليتعلموا التجارة ويعرفوا حال الأسواق وتقلّباتها وأن يعودوا بربح وفير أو على الأقل يعودوا برأس المال.
وهكذا انطلقت القافلة التجارية وقد غاصت في الصحراء وصولا إلى قصري برّيان وغارداية وديدنهم في ذلك هو البحث عن السوق “العامرة” والسعر العادل. ولما وصلوا برّيّان وكانت سوقها أقل شأنا من سوق غرداية تشاور الرفقاء في أمرهم وأشار عليهم “بن طريبة” بالمكوث في برّيان بعد أن استخبر هناك عن أحوال سوق غارداية ولكنّ الأبناء لم يعيروه اهتماما وقرروا المواصلة إلى سوق غارداية وكانت خيبتهم كبيرة حين وجدوا الأسعار “طايحة” فرجعوا إلى ديارهم بالخسارة. بينما عاد “بن طريبة” بربح وفير وأعجب به صاحب المال “عويّل” وزاد شغفه بهذا الرجل حين وجده أمينا وعاد برأس المال والربح كما هما لا ينقص منهما شيء … وهكذا قرر “عويّل” أن يطلب من “بن طريبة” أن يكون شريكا له بنسبة معيّنة مما تلد المواشي ومما تنتج بعد أن كان راعيا عنده وتاجرا بأجر معلوم … فتمّ لهما الاتفاق وبدأ عهد جديد مع الشاب أحمد بن طريبة وصار الرجلان على وفاق وعقد ثقة معنوية أكثر منه عقد تجارة وآجال ومحاسبة …
ولأن الوشاية قد تقع بسبب النفوس الضعيفة وأن المنافسة غير الشريفة قد تقترن بالتجارة والمال فإن هناك من ذهب إلى “عويّل” بغرض الإيقاع بينه وبين رجل ثقته. فألقى في روعه أن “بن طريبة” قد التقاه في السوق الفلاني وأنه قد قال أمام الملأ بأنه صاحب المال وأنه قد تخارج مع شريكه صاحب رأس المال وأن الحساب قد تم بينهما.
هنا قرّر “عويّل” أن يفد على شريكه في البادية وأحضر معه شهودا تعدادهم خمسة عشر رجلا من القبيلة. فلما نزلوا على “بن طريبة” وجدوا الكرم والبشاشة وذبح لهم وأقام لهم وليمة تليق بمقام الضيف والكرم النائلي وتليق بما عليه أي رجلين من وفاق واتفاق وثقة ومودة. ولما رفعت الموائد وعرف “بن طريبة” مقصد القوم وفهم موطئ الخلل والنميمة التي تمت بينه وبين شريكه، فما كان منه إلا أن فنّد ما قيل وقرر أن تكون المحاسبة أمام الجماعة والحضور وبدأت القسمة وأعلمهم بن طريبة بما بدأت به الشراكة وما وصلت إليه بعد السنوات مما ولدته الغنم والماعز وما صرفه وما ناله من نصيب … فوجد “عويّل” نفسه مرة أخرى أمام مال كثير وربح وفير. وما إن انتهت قسمة المواشي حتى دعاهم بن طريبة أن ينتظروا ودخل خيمته وأحضر صرّة مليئة بالنقود ووضعها بين يدي شريكه والحضور ينظرون … فلما سأله عنها أخبره أن الحساب الذي تم منذ قليل هو حساب المال المعلوم والذي يسهل تقصّيه بعدّ رؤوس الماشية أما هذه الصرّة فهي الحساب الذي لا تعلمه أنت ولكن الله تعالى يعرفه … ففيها ما بعتُ من صوف وسمن ولحم شاة عاجلتُها بالسكين بسبب مرض أو حادث … فبقي الحضور واجمين من أمانة هذا الرجل وحرصه الشديد على مال شريكه.
ولما أيقن “عويّل” فداحة ما وقع فيه بسبب الوشاية طلب العذر من “بن طريبة” وأن تستمر شراكتهما وأن يكون الأمر كله على ما يريد ويأمر. ولكن بن طريبة أجاب شريكه بجملة واحدة “راه تكشف الستر” أي أن الحساب قد تم أمام الملأ وكرامته لا تسمح له بالإستمرار في هذه الشراكة. وبعدها دخل بن طريبة مجال التجارة وتربية المواشي وفتح الله عليه وصار من أثرياء المنطقة ككل حتى جرى المثل “عندو مال بن طريبة”.
وهناك مثل آخر يُقال على لسان بن طريبة نفسه بسبب ورعه وتقواه حيث أنه رفض حتى أن يحلب معزات “عويّل” وقال “واش حلّل لي حليب عويّل” وصارت هذه العبارة شائعة وإن كانت بدرجة أقل شيوعا من المثل “عندو مال بن طريبة” … وكان يُفترض أن يشيع المثل الأول لأن الحلال والتحرز من الوقوع في مال غيره هو الذي فتح باب الثروة على بن طريبة …
بقلم بن سالم مسعود
تعليقات
إرسال تعليق